• الموقع: مركز آل الحكيم الوثائقي.
        • القسم الرئيسي: أهل البيت عليهم السلام.
              • القسم الفرعي: الإمام زين العابدين (ع).
                    • الموضوع: حياة الإمام زين العابدين (ع).

حياة الإمام زين العابدين (ع)

مقدمة:


وكان يحمل الخبز في الليالي متخفيّا إلى بؤساء المدينة وفقرائها، فلما مات عرفوا ان الذي كان يحمل اليهم الخبر هو الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام).

 

مولده:


اسمه المبارك (علي) أشهر ألقابه (السجاد و زين العابدين). أبصرت عيناه النور في المدينة في النصف من شهر جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين من الهجرة النبوية الشريفة، أبوه سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، وأمه الجليلة (شهر بانو).

 

خصائصه الخُلقية:


لقيه أحد أرحامه في جمع من أصحابه فتهجّم عليه وقال فيه ما لا يُليق وانصرف، فقال الإمام (عليه السلام) لمن حوله: قد سمعتم ما قال، فاني أرغب أن تأتوا معي الساعة لتسمعوا حوابي عليه.

قالوا: نأتي معك، ولو كنا رددنا عليه ما قال حينما قال لكان أفضل.

فقام الإمام (عليه السلام) معهم إلى بيت ذلك المتهجم، وفي الطريق راح الإمام يردد الآية الكريمة من سورة آل عمران والتي تصف حال بعض المؤمنين:

[والْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ].

فأدرك أصحابه انّه غير ذاهب ليجازيه على ما بدر منه كما هو ظنهم أول الأمر. فلما بلغوا دار ذلك الرجل ناداه الإمام وقال: قولوا له علي بن الحسين (عليه السلام) جاء، فظن الرجل ان الإمام جاء ليجازيه على ما كان منه، فخرج متأهباً للعراك، فقال الإمام (عليه السلام): يا أخي إن كنت قلت ما فيَّ فاستغفر الله منه، وان كنت قلت ما ليس فيَّ يغفر الله لك.

فخجل الرجل من لطف الإمام (عليه السلام)، وتقدّم نحوه وقبّل ما بين عينيه وقال: (بل قلتُ ما ليس فيك وأنا أحق به).

كان في المدينة رجل مُهرج يُضحك النّاس بأفعاله، وكان نفسه يقول: اني لم أستطع ان اُضحك علي بن الحسين (عليه السلام).

وفي يوم كان الإمام (عليه السلام) ماراً إذا أخذ عبائته من على كتفيه وانصرف! فلم يعبأ به الإمام (عليه السلام) ثم جاء بها أصحابه فسألهم الإمام (عليه السلام) من كان الرجل؟

قالوا: مُهرج يُضحك النّاس.

قال: قولوا له [إنَّ للهِِ يَوْماً يَخْسَرُ فيهِ الْمُبْطِلُونَ ].

وزار الإمام السجاد (عليه السلام) ـ زيد بن أسامة ـ وهو يحتضر على سرير الموت.

فجلس عند رأسه وزيد يبكي ان عَلَيّ خمسة عشر ألف دينار، ولم أترك لها وفاءً. فقال الإمام (عليه السلام) لا تبك فهي عليَّ وأنت منها بريء، فقضاها عنه كما وعده.

وكان يحمل الخبز في الليالي متخفياً إلى بؤساء المدينة وفقرائها ويساعدهم بالمال، فلما مات عرفوا ان الذي كان يحمل إليهم الخبز هو الإمام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام)، وعُلم بعد وفاته انه كان يتكفّل معاش مئة من عوائل المدينة الفقيرة ولا يعلم به أحد.

يقول ابن أخت له: ان أمي كانت توصيني بان أصحب خالي علي بن الحسين (عليه السلام)،فما جلست إليه قط إلاّ قمت من عنده بخير أفدته أما خشيه لله تحدث لله في قلبي لما أرى من خشيته، أو علم استفدته منه.

وكان الإمام الباقر (عليه السلام) يقول: وكان قيامه (يريد أباه السجاد) في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل، وكان أعضاؤه ترتعد من خشية الله عزّ وجلّ، ويتبدل لونه وكان يصلّي صلاة مودِّع أن يرى أن لا يصلي بعدها أبدا.

 

مكانته العظيمة:


قدم هشام بن عبد الملك مكة حاجّاً فلمّا أراد أن يطوف منعه اشتغال النّاس به من استلام الحجر الأسود، فانتحى ناحية حتى يفرغ النّاس من طوافهم. فبينما هو جالس ينتظر اذ أقبل الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى المسجد الحرام يطوف به، فلمّا رآه النّاس شقّوا له طريقاً فيهم، فمضى بهدوء حتى قارب الحجر فأخذه، فكبر ذلك على هشام، وكان الى جانبه رجل من أهل الشام فالتفت نحوه وقال: من الرجل الذي قام له النّاس …

 فخشي هشام ان يميل إليه أهل الشام وينصرفوا إليه ان هو أباح له باسمه، فقال: لست اعرفه.

وكان الفرزدق الشاعر الحُر المعروف حاضر الموقف فقال: بل أنا أعرفه، وأنشد قصيدة طويلة في مدحه (عليه السلام).

فكانت أبياته من الروعة والبيان بمكانة جعل هشاماً يخور كالحيوان الجريح، وأمر بالفرزدق ليحمل الى السجن.

فلمّا علم الإمام (عليه السلام) بخبره بعث له بصلة فأعاد الفرزدق الدراهم بإخلاص وأرسل له اني ما أنشدت هذه الإشعار إلا لله والرسول (صلى الله عليه وآله)، فصدّق الإمام (عليه السلام) إخلاصه وأمانته واقسم عليه ليقبل وله أجره في الآخرة وبعث له بالمال ثانية وقال: قولوا له ان من سجيتنا الإحسان ولا نأخذ ما أعطينا... فقبل الفرزدق الصلة مسروراً.

 

 الإمام يوقظ المسلمين:


ما من شك ان أخذ آل علي والحسين (عليهما السلام) سبايا الى الشام،كان له أبلغ الأثر في بلوغ ثورة الحسين (عليه السلام) أهدافها. فلو لم يرووا حوادث الفاجعة (فاجعة كربلاء) على النّاس في هذا السفر، ولم يشهد النّاس حالهم عن قرب، ما بلغ مقتل الإمام هذا المبلغ من الشهرة وذيوع الصيت، وما افتضح بنو اُمية ويزيد هذه الفضحية المنكرة.

فقد دأب آل الحسين (عليه السلام) وأهل بيته على الحديث ـ خلافاً لما يتوهمه أهل عصرهم ويظهره السبي من الخذلان والصغار ـ عن انتصارهم وخذلان عدوهم يزيد وأعوانه.

وكان فيمن بقي حيّا بعد الفاجعة وترك أعظم الأثر في إيقاظ النّاس وتوعيتهم إمامنا العظيم (زين العابدين (عليه السلام) وعمته الجليلة زينب الكبرى (عليها السلام).

فلم يكن المرض الذي نزل به أيام مقتل أبيه (عليه السلام) (وآثاره ما زالت في جسده الشريف قطعاً)، والأسى الذي حل به لمقتل أبيه ومقتل إخوته والأنصار بالذي يحول دون ان ينجز الإمام مهامه وواجباته، فكان لا يدع فرصة سنحت له إلا استغلها لارائة النّاس حقائق الامور.  فبينما كان أهل الكوفة يضجون بالبكاء والنحيب خجلاً من كلمات العقيلة زينب (عليها السلام) النارية وخطب اختها وفاطمة الصغرى بحقّهم أشار إليهم الإمام (عليه السلام) ليسكتوا فسكت النّاس، فقام فحمد الله وأثنى عليه وصلى عليه النبي (صلى الله عليه وآله) وقال:

أيها النّاس... أنا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أنا ابن من نُهب ماله وسُبي عياله، أنا ابن من قُتلَ مظلوماً عند شط الفرات، بلا دم أراق، ولا حق أضاع.

أيها الناس… بالله عليكم أما كتبتم الى أبي تدعونه ليجيء الكوفة فلما جاءكم قتلتموه؟

أيها النّاس: كيف بكم اذ رأيتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم القيامة يقول لكم قتلتم أهل بيتي ولم ترقبوا حرمتي فلستم من أمتي؟

فاضطرب أهل الكوفة لسماعهم كلمات الإمام (عليه السلام) وهاجوا وماجوا، يبكون ويتلاومون ان هلكتم وأنتم لا تعلمون.

وهكذا نبّه الإمام (عليه السلام) الضمائر الغافية من رقدتها، وصوّر عظمة الفاجعة وأفهم أهل الكوفة ضخامة فعلهم.

وحُملت حرم الإمام الحسين (عليه السلام) الى قصر ابن زياد وما أن رأى ابن زياد الإمام حتى قال: من هذا؟

قالوا: علي بن الحسين.

قال: أو لم يقتل الله عليّا؟

فقال الإمام (عليه السلام): كان لي أخ اسمه عليّ قتله النّاس.

قال ابن زياد: بل قتله الله.

قال الإمام (عليه السلام): اللهُ يَتَوَفَّى الاَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِها.

فقال ابن زياد: أما زالت فيك جرأة ترد بها عليَّ؟ وأمر بقتله مغروراً، فاعترضت طريقه زينب الكبرى (عليها السلام) وهي تقول: ما أبقيت لنا من أحد فان عزمت على قتله فاقتلني معه.

فقال لها الإمام (عليه السلام): لا تقولي له شيئاً. أنا أكلمه.

ثم التفت الى ابن زياد وقال: يا ابن زياد! أبالموت تهددني وتخوفني؟

ألم تعلم ان الموت لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة؟

 

في بلاد الشام:


وجيء ببعض السبايا الى يزيد بن معاوية بالشام فادخلوهم عليه وهم مقيدون بحبل واحد، فالتفت الإمام بجرأة وإباء الى يزيد وقال:

«ما ظَنُّكَ بِرَسُولِ اللهِ لَوْرَآنا مُوَثَّقِينَ فِي الحِبال».

أثارت عبارته القاطعة على اختصارها شجون الحاضرين وجعلتهم يبكون.

روى البعض: كنت في الشام حين جيء بسبايا آل محمّد (صلى الله عليه وآله) وكان في سوق الشام مسجد تحفظ فيه الأسرى، فتقدم شيخ من أهل البلاد منهم وقال: الحمد لله الذي أهلككم وأطفأ الفتنة ـ وأكثر من الكلام البذيء. فلما فرغ من كلامه قال له الإمام زين العابدين (عليه السلام).

سمعت مقالتك واَبنتَ لي عن العداء والضغن الذي في قلبك فاسمع مني كما سمعت منك.

قال: قل.

قال (عليه السلام): فهل قرأت القرآن؟

قال: قد قرأت.

قال (عليه السلام): فهل قرأت [ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه أجْراً اِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى].

قال: قرأتها.

قال (عليه السلام) فنحن القُربى يا شيخ.

ثم قال (عليه السلام): فهل قرأت (آتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ).

قال الشيخ بلى قرأتها.

قال (عليه السلام): فنحن ذوو القربى، الذين أمر الله نبيه بايتائهم حقهم.

فقال الرجل: أأنتم هم؟

قال الإمام (عليه السلام): بلى. فهل قرأت آية الخمس (وَاعْلَمُوا أنَّ ما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيء فَاَنَّ للهِِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى).

قال: بلي قرأتها.

قال (عليه السلام): فنحن هم. فهل قرأت آية التطهير (إِنَّما يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرَّجْسَ أهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّركُمْ تَطْهيراً).

فرفع الشيخ يديه نحو السماء وقال: رباه تبتُ اليك... قالها ثلاثاً، الهي تبت اليك من عِداء آل الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأبرأ اليك من قتلتهم، قد قرأت القرآن من قبل فما علمت ذلك.

 

 الإمام (عليه السلام) في مسجد الشام:


أمر يزيد يوماً أحد الخطباء ليرقى المنبر ويسبَّ علياً. وابنه الحسين (عليهما السلام) وينال منهما، فرقى الرجل المنبر، وأطلق لسانه فيهما يسبهما شر سباب وينعتهما باقبح النعوت ويثني على يزيد ومعاوية.

وكان الإمام (عليه السلام) حاضراً فصاح: الويل لك أيها الرجل اشتريت رضى المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النّار.

ثم التفت الى يزيد وقال: دعني أرتقي هذه الأعواد فأقول ما يرضي الله ويُنال به الأجر والثواب.

فامتنع يزيد بادئ الأمر، وأصرّ عليه النّاس ليقبل فقال: انّه ان ارتقاه فلن ينزل منه إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.

 فقالوا له: وما ذا بوسعه ان يقول؟

قال: انّه من أهل بيت زقوا العلم زقّا وارتضوه ارتضاعاً.

فأصر النّاس على يزيد أكثر فقبل، وارتقى الإمام (عليه السلام) المنبر فحمد الله واثنى عليه وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال:

الحمدُ لله القديم الباقي، الأول الذي لا أول قبله، والآخر الذي لا آخر بعده، الباقي بعد فناء كل شيء.

أيها النّاس... ان الله أعطانا العلم والحلم والصبر والسخاء والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين...

منا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وصدّيق هذه الأمة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ومنّا جعفر الطّيّار، ومنا حمزة سيّد الشهداء، ومنّا الحسن والحسين ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنا مهديُها.

... أنا ابن مكة ومنى.

أبا ابن زمزم والصفا.

أنا ابن من حمل الحجر (الأسود) بأطراف الردا.

أنا ابن خير من حرم وطاف وحجّ وسعى.

أنا ابن من اُسري به ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

أنا ابن من أوحى الله له ما أوحى.

أنا ابن الحسين المقتول بكربلا.

أنا ابن محمد المصطفى.

أنا ابن فاطمة الزهراء.

أنا ابن خديجة الكبرى.

أنا ابن المضرج بالدما.

وكان الإمام (عليه السلام) يتكلم والنّاس ينظرون إليه، وهو يظهر في كل جملة عظمة البيت الذي ينتسب إليه، وعمق شهادة أبيه الحسين (عليه السلام). واغرورقت العيون بالدموع واحتبست أصوات البكاء والنحيب في الحناجر، ثم سمعت أصوات بكاء محتبس من كل ناحية، فذعر يزيد ذعراً شديداً، وأمر المؤذن ليرفع صوته بالأذان فيهدأ النّاس ويقطع كلام الإمام.

فقال المؤذن: الله اكبر.

قال الإمام (عليه السلام): من على ظهر المنبر: الله اكبر وأعلى وأجل وأرفع مما أخافُ وأحذر.

فقال المؤذن: أشهد أن لا اله إلاّ الله.

فقال الإمام (عليه السلام): أجل أشهد بكل شهادة أن لا إله إلاّ هو.

فقال المؤذن: أشهد أن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(وكانت الرؤوس مطأطأة إلى الأرض تنصت بتأمل الى صوت المؤذن وجواب الإمام، فلما ذكر اسم محمّد (صلى الله عليه وآله) صعّد الناس بأنظارهم نحو الإمام (عليه السلام) وفي أعينهم حجاب الدموع كأنّهم يرون فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله).

فرفع الإمام العمامة من رأسه وصاح: عليك بمحمّد هذا إلا ما تريثت... (فسكت المؤذن، وأنصت النّاس... وتحيّر يزيد، وتغيّر لونه، فحتى الأذان لم يسكت الإمام).

والتفت الإمام (عليه السلام) إلى يزيد وقال:

... يا يزيد! أهذا جدي أم جدك؟ فان قلت جدك، كذبك النّاس، وان قلت جدّي فلم قتلت أبي ونهبت ماله وسبيت حرمه؟!

… يا يزيد… ألا زلت تصدق أن محمّداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتقف إلى القبلة تصلي؟... الويل لك... سيكون جدِّي وأبي خصيميك يوم القيامة.

فأمر يزيد المؤذن ليقيم، هذا والنّاس منزعجون، وغادر بعض المسجد ولم يحضر الجماعة.

ويحدثنا التاريخ نفسه ـ والتاريخ خير محدِّث ـ عن مدى التأثير الذي تركته أقوال الإمام وخطاباته في سفره هذا، فقد أرجع يزيد الإمام السجاد (عليه السلام) ومعه جميع أهل البيت معززين مكرمين الى المدينة، وكان قد أضمر ليقتلنّه. ولم يمض وقت طويل حتّى ارتفعت رايات الثورة ضد النظام الاموي في العراق والحجاز، وثار الآلاف من النّاس يطالبون بالثأر لدماء سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، ولا نزاع في ان سبي حرم الحسين (عليه السلام) وأهل بيته الكرام، وخطاباتهم واحاديثهم مع النّاس، وبالأخص خطب الإمام السجاد (عليه السلام) الرنانة في الفرص المواتية خير متمم ومبلغ الأهداف المرجوة من ثورة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام).

 

الإمام العليل:


يطلق كثير من العامة على الإمام الرابع اسم (علي العليل)، وقد يظنون ان ذلك العظيم قضى عمره مريضاً متشكياً، ولذا كان البعض يتخيل الإمام (عليه السلام) باهت اللون خائر النفس.

لكن الواقع خلاف ذلك وانه (عليه السلام) قضى عمره صحيحاً سليم الجسم،لم يزره المرض الا مدّة قصيرة بكربلاء أيام مصرع أبيه، وكان له وقاء من الموت، وقاه الله به ومنعه من أن تصل اليه أيدي أعوان يزيد فلا تنقطع بموته سلسلة الإمامة ويتعرض مستقبل الإسلام للخطر.

وفيما يلي بعض الروايات الواردة في مرضه:

روى الشيخ المفيد في الإرشاد: أقبل الشمر في جماعة من الجند الى الخيام، وفيها علي بن الحسين (عليه السلام) وهو مريض طريح الفراش.

وكتب مؤلف تذكرة الخواص يقول: ولم يقتلوا علي بن الحسين (عليه السلام) لانّه كان مريضاً.

وجاء في الطبقات: ان الشمر جاء علي بن الحسين (عليه السلام) بعد شهادة أبيه الحسين (عليه السلام) وكان مريضاً، فقال لمن حوله اقتلوه، فقال رجل من حوله، سبحان الله أنقتل الفتى وهو مريض ولم يسهم بقتال؟!.

فأقبل ـ عمر بن سعد ـ وقال لا تمسوا النساء وهذا المريض.

وكتب البعض ان مرضه أو بقاياه لم يزل به حتى قدم الكوفة.

ثم لم يرى الإمام بعدها مريضاً أبداً بل دلت القرائن التي في أيدينا انّه (عليه السلام) كان يتمتع بصحة تامة شأنه شأن سائر الأئمة لم يصب في حياته إلا في بعض الأوقات، وكان يؤدي واجبات الإمامة بصورة رتيبة.

 

الإمام السجّاد (عليه السلام) وولاة عصره:


ولي الحكم في عهد إمامة السّجّاد (عليه السلام) العديد من ولاة الجور والحكام الظلمة منهم يزيد بن معاوية، وعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان، والوليد بن عبد الملك، وقد حكم كل منهم المسلمين ردحاً من الزمن، ونذكر فيما يلي جوانب من جرائهم للتعرف على أحوال ذلك الزمان.

في العام الثاني والستين من الهجرة وبعد مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام)، خرج جمع من أهل المدينة الى الشام فدخلوها وشاهدوا يزيد عن قرب يشرب الخمر ويلهو مع الكلاب ويقضي ليله في اللهو واللعب والفجور، فعادو وحدّثوا النّاس بالخبر وكان مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) قد أحزن أهالي المدينة فرفعوا لواء الثورة، فبعث يزيد جيشاً بقيادة شخص ساقط ومنحط يدعى ـ مسلم بن عقبة ـ لقمع الخارجين عليه فاغار الجيش على المدينة ثلاثة أيام ونهبوا الدور وأباحوا الدماء وقتلوا عشرة الآلاف رجل، ولم يتورعوا عن ارتكاب أقبح الجرائم وأشنعها.

وبعد موت يزيد في العام الرابع والستين من الهجرة، استوى على مقعد الحكم بعده ابنه معاوية، لكنّه بعد مدة قصيرة ـ أربعين يوماً أو ثلاثة أشهر ـ عاد فارتقى المنبر وأعلن استقالته وتنازله عن الحكم.

وكان عبد الله بن الزبير طامعاً في الخلافة منذ أمد غير قصير، فأعلن الثورة بموته، وبايعه عليها أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وتصدّى لمخالفته مروان بن الحكم الذي كان قد احتال للاستيلاء على الحكم، فتمكن بشتى الحيَلْ من إخضاع الشام ومصر لسلطانه وادخالهما تحت نفوذه، ولم يلبث حتى مات، فخلفه من بعده ابنه عبد الملك.

تولى عبد الملك بن مروان الحكم في العام الخامس والستين من الهجرة، وبعد تثبيت أقدامه حاصر عبد الله بن الزبير في مكّة في العام الثالث والسبعين الهجري فاعتقله ثم أمر به فقتل.

كان عبد الملك رجلاً قاسي القلب بخيلاً ظالماً، قال يوماً ـ لسعيد بن المسيب ـ صرتُ لا اُحب الخير ولا أبغض القبيح فقال له سعيد: فقد مات قلبك إذن.

قال في خطبة خطبها بعد مقتل عبد الله بن الزبير: ما دعاني أحد إلى التقوى إلا ضربت عنقه.

من عظيم جناياته انّه أسند إلى ـ الحجّاج بن يوسف ـ ولاية البصرة والكوفة، والحجاج من أبطش رجال بني أمية وأعظمهم سفكاً للدماء كان يعشق القتل والظلم فكان يعذّب النّاس وينكّل بهم ويقتلهم خصوصاً شيعة علي (عليه السلام) وقد قتل في فترة ولايته ما يقرب من مئة وعشرين ألف رجل.

كان عبد الملك شديد المراقبة للإمام (عليه السلام) وجهد ليظفر منه ما يتمسك به ذريعة للنّيل منه.

تزوج الإمام السجّاد (عليه السلام) جارية له كان قد اعتقها نفسه فعلم عبد الملك الخبر فكتب له كتابا يعرّض به فقال:

«بلغني تزويجك مولاتك وقد علمت انّه كان كان في اكفائك من قريش من تمجّد به في الصهر وتستنجيه في الولد فلا لنفسك نظرت ولا على ولدك أبقيت والسلام».

فكتب إليه الإمام جواباً على ما جاء في كتابه:

(أما بعد فقد بلغني كتابك تعنفي بتزويجي مولاتي وتزعم انّه كان في نساء قريش من أتمجّد به في الصهر واستنجبه في الولد وانّه ليس فوق رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرتقى في مجد ولا مستزاد في كرم انّما كانت ملك يميني خرجت حتى أراد الله عزّ وجلّ مني بأمر التمس به ثوابه ثم ارتجعتها على سنة، ومن كان زكيّا في دين الله فليس يخل به شيء من أمره وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة وتمم به النقيصة).

أراد عبد الملك تحقير الإمام (عليه السلام) وإدخال الرعب في قلوب النّاس والحيلولة دون أي نشاط فبعث وراءه من يأتي به بعنف، فجيء به ثم أعاده إلى المدينة.

وبعد موت عبد الملك في العام السادس والثمانين الهجري خلفه ابنه ـ الوليد ـ وكان رجلاً ظالماً جبّاراً، كتب جلال الدين السيوطي عنه يقول: ـ كان الوليد جباراً ظالماً ـ.

قال في أول خطبة خطبها في النّاس: «ايّما أحد تطاول قتلناه ومن يسكت قتله سكوته».

كان الوليد كغيره من الولاة الظلمة يخشى الإمام (عليه السلام) و ذيوع صيته في النّاس وينزعج لعظم مقامه وعلوّ منزلته، وكان يحذر ان يلتف النّاس حوله ويهدّوا سلطانه، فلم يطق تحمل وجوده في جماعة المسلمين فكاد له حتى دس له السم وقضى مسموماً.

وبالتأمل في أوضاع الفترة التي قضاها الإمام السجّاد (عليه السلام) إماماً حيث الأزمات الاجتماعية، و التيارات المتضاربة، وولاة الجور الظلمة، والمراقبة الشديدة له، وفقدان الموالين المخلصين المضحين يتضح لنا انّه ما كان له سبيل سوى الصراع السلبي وتربية الموالين والتلامذة المخلصين ونشر مسائل العلم والأخلاق.

رآه أحدهم في طريق مكة حاجاً فقال له: تركت سبيل الجهاد وعورته وأخذت طريف الحج؟

فقال (عليه السلام): لو وجدنا إتباعاً مضحين لكان الجهاد خيراً منه.

يروي أبو عمر النهدي عن الإمام السجّاد انّه كان يقول: ليس لنا في مكة والمدينة عشرون رجلاً.

 

الإمام (عليه السلام) وتربية المسلمين:


من جملة نشاطاته (عليه السلام) بعد واقعة كربلاء، وعودته إلى المدينة، نشر الأحاديث والعلوم الإسلامية بواسطة عدة من المسلمين وتربيتهم.

فقد ذكر الشيخ الطوسي في رجاله اثنين وسبعين رجلاً من أصحاب الإمام (عليه السلام) أو ممن يروي عنه بأسمائهم، نورد فيما يلي أسماء ثلاثة منهم:

1ـ سعيد بن المسيّب: قال عنه الإمام (عليه السلام) نفسه، سعيد بن المسيّب ـ أعلم النّاس بما تقدمه من الاثار، وأفهمهم في زمانه).

2ـ ابو حمزة الثمالي: قال فيه الإمام الثامن ـ علي بن موسى الرضا ـ (عليه السلام)، أبو حمزة سلمان زمانه.

3ـ سعيد بن جبير: كان كثير العلم حتى قيل عنه:

«ليس على وجه الأرض من هو مستغن عن علم ابن جبير».

اعتقله رجال الحجاج يوماً، وجاءوا به عنده، فقال الحجاج: انت شقي بن كسير لا سعيد بن جبير.

فقال سعيد: إن اُمي

اعلم حينما سمتني سعيداً.

 فقال الحجاج: فما ترى في أبي بكر وعمر في الجنة هما أم في النّار؟ (يريد أن يقول سعيد شيئاً يقتله به).

فقال سعيد: اذا دخلت الجنة ورأيت أهلها فسوف أعلم من هم أهلها، وان وردت النّار ورأيت أهلها فسوف اعرفهم.

فقال الحجاج: ما ترى في الخلفاء؟

قال سعيد: لستُ موكلا بهم.

الحجاج: فأيهم تحبه اكثر من غيره.

سعيد: من كان أرضاهم لله.

الحجاج: فأيهم أرضاهم لله.

سعيد: الله العالم بالخفايا والأسرار يعلم ذلك.

الحجاج: لم لا تضحك؟

سعيد: كيف يضحك من خلق من تراب وقد تحرقه النّار.

الحجاج: فلماذا نضحك نحن؟

سعيد: قلوب النّاس ليست سواء.

فأمر الحجاج ليؤتى بالمجوهرات وتوضع إمام سعيد.

فقال سعيد: ان ادخرت هذه لتنجوبها من عذاب القيامة فلا بأس عليك وإلا فاعلم أنها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، فلا خير في ادخار الثروة الاّ ما كان زكيّا خالصاً.

 فأمر الحجاج ليؤتى بالآت اللهو والطرب فبكى سعيد.

 قال الحجاج: كيف تريد ان تقُتَل؟

 قال سعيد: كما تحب، والله ما قتلتني قتلة إلا قتلكَ الله مثلها يوم القيامة.

 قال الحجاج: أترغب أن أعفو عنك.

 قال سعيد: ان كان هناك عفو فهو من عند الله ولن اطلب صفحاً منك أبداً.

 فأمر الحجاج ليمد بساط القتل فقال سعيد، (وَجَّهْتُ وَجْهِيَ للَّذي فَطَرَ السَّمواتِ وَالاَرْضَ حَنيفاً وَما أنا مِنَ الْمُشْرِكينَ (51).

 فقال الحجاج: حوّلوا وجهه عن القبلة.

 قال سعيد: فَاَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.

 فقال الحجاج: اجعلوا وجهه الى الأرض.

 قال سعيد: مِنْها خَلَقْناكُمُ وَفيها نُعِيدكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تارَةً اُخْرى.

 فقال الحجاج: افصلوا رأسه.

 قال سعيد: أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ وَاَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (صلى الله عليه وآله).

 ثم دعا فقال: اللهم لا تسلّطهُ على أحد من بعدي.

 ولم تمض سوى لحظات قليلة حتى كان دم سعيد بن جبير الطاهر يجري بأمر من الحجّاج.

 كان سعيد بن جبير من صحابة الإمام (عليه السلام) وشيعته، وكان الإمام (عليه السلام) يجله كثيراً، ولم يكن له ذنب يؤاخذ عليه إلاّ قربُه منه.


  • المصدر: http://www.alhakeem-iraq.net/subject.php?id=102
  • تاريخ إضافة الموضوع: 2010 / 04 / 22
  • تاريخ الطباعة: 2024 / 03 / 28